الفاكهة - البقاع الشمالي
أجالس أمي وأبي وخالتي التي أخلت منزلها هرباً من القصف والدمار، محاطةً بالصدى المألوف للغارات الإسرائيلية والصمت الذي يصمُّ الأذان في الشوارع المهجورة، أجد نفسي أتصارع مع حقيقة لا ينبغي أن يواجهها أي مواطن/ة لبناني/ة.
الحرب...
مرة أخرى، يجد لبنان - بلدي المثقل أصلا بعقودٍ من عدم الاستقرار السياسي والإنهيار الإقتصادي والتفكك الإجتماعي وتضييق المساحات المدنية وسطوة الميليشيات - نفسه مرة أخرى يساق إلى صراع لم يختره ولا يستطيع السيطرة عليه.
هذا ليس مجرد عنواناً آخر يكتب عنه في الصحف وتؤلف عنه الخطابات الرنانة، إنها حياتنا وبيوتنا ومستقبلنا. أكتب هذا بقلم إمرأة ومواطنة لبنانية لا يسعها إلا أن تتأمل العجز الذي يسري في شوارعنا.
فجنوب لبنان في حالة خراب تام.
وسهل البقاع تهزّه الإنفجارات.
وأجزاء من بيروت تحمل ندوب هذه الحرب المفروضة على اللبنانيين واللبنانيات.
لقد أزهقت الحرب أكثر من ٦٠٠ روح في غضون ثلاثة أيام فقط بما في ذلك النساء التي تُفرض عليهن الحرب ويستبعدن عند التفاوض لإيجاد حل، والأطفال الذين سرق مستقبلهم/ن قبل أن يبدؤوا/ن حياتهم/ن.
إن الدمار مذهل: أكثر من ٧٠ ألف نازح من جنوب لبنان وعدد لايحصى من المنازل المدمرة.
أما المؤسسات الأساسية التي تبقي مجتمعنا متماسكا وتضفي هيئة الدولة عليه - المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية وأماكن العمل، توقفت عن العمل!
نحنُ اللبنانيين واللبنانيات نجد أنفسنا نعيش من غير حياة.
أما بالنسبة لنا نحن الذين في مرمى النيران، نحن لسنا أحجار في لعبة الشطرنج السياسية هذه. لم نطلب هذه الحرب. ولسنا جنودا في هذا الصراع. ولسنا دروعا بشرية تستخدموها في صراع جيوسياسي ملتوٍ بين كيانات أجنبية لطالما استخفّت بسيادتنا وكراماتنا.
نحن لسنا خسائر جانبية في معركة الايديولوجيات هذه - نحن تكبدنا معاناة وصرنا نشهد على مأساة إنسانية لا يمكن للعالم تجاهلها.
لقد اعتدنا كمواطنين ومواطنات على الأزمات، ولكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفًا. فثقل الخوف والتوتر والعزلة لا يُطاق. مستقبلنا، المعلق أصلاً بخيط رفيع بسبب الشلل السياسي والانهيار الاقتصادي، يبدو الآن بعيد المنال تمامًا.
إن الإحساس بالوحدة والشعور بأننا محاصرون في كابوس لا مخرج منه شعور خانق، ليس الدمار المادي وحده هو ما يطاردنا بل الإحساس العميق بالعجز.
فنحن شعب لبنان، لسنا المحرضين/ات على هذه الحرب ولا أصحاب القرار في حسمها. لقد تم إسكات أصواتنا من قبل القوى التي تدعي تمثيلنا. نحن محاصرون/ات في خضم مواجهة وحشية بين إسرائيل وحزب الله، والتي يغذيها صراع إقليمي أوسع نطاقاً على السلطة بين إيران وإسرائيل.
وفي قلب هذه الأزمة يكمن النفوذ الإيراني الذي لا يمكن إنكاره والذي أدت طموحاته الاستراتيجية في الشرق الأوسط إلى تأجيج العديد من الصراعات في جميع أنحاء المنطقة. فقد مكّنت طهران حزب الله، من الانخراط في هذه الحرب مع إسرائيل، وجر الشعب اللبناني إلى صراع لم يختاره. وهذا جزء من جهد إيراني أوسع نطاقًا لتأكيد الهيمنة على الجغرافيا السياسية الإقليمية، مستفيدة من القوى الوكيلة في لبنان وسوريا والعراق واليمن لتعزيز أهدافها الخاصة.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يحترق فيه لبنان ويموت المئات يوميا وينزح ألوف آخرون، استأنفت إيران المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، مصورة نفسها على أنها لاعب عقلاني على الساحة العالمية. وفي تصريحات الرئيس الإيراني، نأت إيران نفسها عن الصراع، زاعمة أن الوضع في لبنان شأن خاص بهم ومؤكدين أن إيران لا تنوي الاشتباك مع إسرائيل مباشرة.
تكشف هذه الازدواجية عن براغماتية محسوبة: فإيران راضية بأن تترك لبنان ساحة المعركة، مستخدمةً حزب الله وكيلاً عنها، بينما تحمي مصالحها الخاصة على طاولة المفاوضات الدولية. غير أن الشعب اللبناني يُترك ليتحمل وطأة هذا التلاعب الخبيث.
على الجانب الآخر، تثير أفعال إسرائيل أسئلة حرجة حول حدود القانون الدولي والأخلاق في الحرب. إن حجم الدمار الهائل الذي لحق بلبنان وغزة، حيث يُقتل المئات من المدنيين/ات يوميًا، يتحدى أي تفسير معقول للقانون الدولي الإنساني. لقد تم انتهاك مبدأ التمييز، الذي يقضي بالتمييز بين المقاتلين/ات والمدنيين/ات، بشكل متكرر. ومع استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية للمناطق المكتظة بالسكان ولسيارات الاسعاف وللمنازل المأهولة، يستمر عدد الضحايا المدنيين/ات في الارتفاع، مما يؤكد وحشية الصراع الذي تعتبر فيه أرواح الأبرياء مستهلكة.
لقد أصبح الشعب اللبناني ضررًا جانبيًا، وتحول إلى مجرد بيادق في لعبة مميتة لا تخدم مصالح أحد سوى هؤلاء المرتهنين/ات لقرار وأجندات وإيديولوجيات غير اللبنانية.
لكن لا.
لن نرضى هذه المرة أيضا أن نكون أضرارا جانبية. لسنا أرقامًا في حصيلة القتلى، ولسنا ضحايا مجهولي الهوية لصراع لم نختاره. نحن أمهات وآباء وبنات وأبناء- لكل منا أحلام وآمال وطموحات مدفونة الآن تحت الأنقاض.
يجب أن يفهم العالم أن لبنان لا يستطيع تحمل هذا العبء وحده. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نُستهلك بروايات القوى الأجنبية التي ترانا مجرد أرقام وترى لبنان حلبة صراع. يقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية ليس فقط الاستجابة للأزمة الإنسانية الفورية بل أيضاً الاعتراف بالأسباب الجذرية لهذا النزاع ومحاسبة أولئك الذين يواصلون استغلال لبنان لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بهم.
يستحق الشعب اللبناني أن يعيش بسلام، وأن يزدهر ويعيد بناء بلده بشروطه. نحن لسنا بلا صوت، ولسنا عاجزين/ات… ففي كل قنبلة تسقط، وفي كل حياة تُفقد، هناك صرخة من أجل العدالة، من أجل الإنسانية، من أجل وضع حد لدورة العنف والإجرام والاستقواء والسرديات التي تؤدب وتتهم وتدعو للعنف والقتل والدمار وتفتخر بثقافة الموت خاصّتها والتي طبعت تاريخنا لفترة طويلة جدًا.
لقد حان الوقت لكي يستمع العالم. ليفهم أننا لسنا مجرد ساحة معركة، بل نحن شعب يستحق فرصة العيش متحررين من قيود الحرب والنفوذ غير اللبناني.
فلتكن هذه الحرب فصلاً آخر في تاريخ لبنان الطويل من المعاناة. فلتكن اللحظة التي يقول فيها العالم أخيراً: كفى.
فالشعب اللبناني ليس رهينة.
نعم لسنا رهائن،
لسنا دروعاً بشرية،
لسنا أضراراً جانبية.
نحن بشر - نستحق السلام والأمان والكرامة.
وقد حان الوقت ليعترف العالم بذلك.